في عالم العطور حيث تسود الحكاية أحيانًا على المادة، يخرج عامر الراضي عن السياق المألوف، باحثًا عن الصمت الكامن خلف كل رائحة، وعن البنية العميقة التي تتشكل منها العاطفة قبل أن تلبس قناع الجمال.
ليس عطارًا بالمعنى الكلاسيكي بل معماري للرائحة، ومحلل حسي يفكك العبق كما يفكك فيلسوفٌ نصًا قديمًا، باحثًا عن الدلالة قبل الزخرفة، وعن الجوهر قبل الشكل.
يتحرك عامر في فضاء معطّر بالأسئلة لا باليقين، كل تركيبة يقدمها تحمل أثر بحثٍ داخلي، وتوترٍ بين ما يُشم وما يُحس، بين ما يُقال وما يُترك عمدًا في الظلال.
وفي هذا الحوار نقترب من رؤيته، من منهجه ومن تلك الطبقات غير المرئية التي تشكّل عالَمه العطري الفريد.
ما الذي دفعك لدخول عالم صناعة العطور؟
دخولي إلى عالم العطور جاء بالتدريج، ولم يكن هدفًا في البداية، لكن الشغف بالعطور والتعرف على المواد الطبيعية والأولية، قادني إلى خوض هذا المجال والدخول في عالم تصميم العطر.
كيف ساهمت البيئة السعودية في تشكيل ذائقتك العطرية؟
ساهمت بشكل كبير، إذ أن ثقافة التعطر متأصلة في المجتمع السعودي، والاهتمام بالعطور يُعد أمرًا أساسيًا في حياتنا اليومية.
هل هناك شخصية أو صانع عطور عالمي تعتبره مصدر إلهام؟
لا يوجد عطار محدد يمثل مصدر إلهام، لكن لدي إعجاب كبير بأعمال دومينيك روبيون وموريس روسيل، لما يقدمانه من عمق وإبداع.
كيف تصف فلسفتك في صناعة العطر؟ وهل تراها رسالة فنية أم منتجًا تجاريًا؟
هي كلاهما، ولكن بالنسبة لي هي رسالة فنية أولًا، أحرص على إيصالها من خلال كل تصميم، خصوصًا للمتعمقين في هذا العالم الذين يبحثون عن التميز ويفهمون الفكرة العطرية التي أقدمها.
عندما تصمم عطرًا، هل تبدأ من رائحة أم شعور؟
تختلف البداية حسب العطر، أحيانًا تكون الفكرة أولًا، وأحيانًا تكون المادة العطرية هي مصدر الإلهام، وقد تأتي الفكرة من أشخاص مقربين، الأهم دائمًا هو الفكرة التي ينطلق منها التصميم.
ما البصمة التي تعتقد أن أنفك يتركها في كل عطر؟
لا أتعمد ترك بصمة محددة، لكنني أحرص على أن تحتوي كل مرحلة من مراحل العطر على قيمة عطريّة مميزة.
هل تفضل المواد الطبيعية أم الجزيئات الصناعية الحديثة؟
الجزيئات الصناعية ليست سيئة كما يُشاع، وكذلك المواد الطبيعية ليست دائمًا عالية الجودة، العطار الناجح يستخدم مزيجًا من الاثنين، الصناعي يشكل الهيكل والطبيعي يضفي الروح بنظري، كما أن بعض المواد الصناعية أغلى من نظيراتها الطبيعية.
هل هناك نوتة تُعد توقيعك الخاص؟
أُفضل النوتات الزهرية بشكل واضح، وأحرص على إضافتها في أغلب تصاميمي لما تضيفه من تميز وعمق لقلب العطر.
كيف تختار المواد الخام التي تعمل بها؟ وهل تستوحي من أماكن معينة أو من الروائح اليومية؟
هذه أهم مرحلة لكل عطار، وأعتقد أن العطارين المستقلين والحرفيين لديهم ميزة لايمكن لغيرهم من العطارين الحصول عليها، وهي تنوع مصادر المواد ولايوجد حصر أو تقييد لاستخدام مواد من شركات محدودة، واختياري للمواد هي أهم مرحلة لدي، والبحث المستمر عن المواد الجديدة هو الشغف، ويتم خلال التجارب الكثيفة واختيار أفضل المواد لدى أغلب الشركات العالمية واستخدامها في تصاميمي الخاصة.
كيف ترى واقع صناعة العطور في السعودية؟
الواقع مشجّع جدًا ويدعو للفخر، هناك دعم وتقبل من المجتمع السعودي للعطارين، ما يعكس بيئة محفّزة على التميز.
كيف تتعامل مع ذوق الجمهور؟
الموازنة مهمة، يجب أن يفرض العطار أسلوبه في البداية ليبرز هويته، ثم يمكنه لاحقًا مراعاة الذوق العام في بعض التصاميم.
كيف تبدأ تصميم عطر لشخصية فنية أو سياسية؟
يبدأ التصميم بفهم الشخصية ومحاولة رسم خط عطري يعكس هويتها، حين تتوفر هذه العناصر، أبدأ بتحديد المواد وبناء الفكرة.
لو كنت شاعرًا، كيف تكتب بيتًا يصف مسيرتك؟
مشّيت دربي والنّوايا سليمة وكلّ العثر ما زادني غير قوّة
هل استخدمت الذكاء الاصطناعي في عملك؟
حتى الآن لا.
لقد حصل عطر “الياسمين العربي” على جائزة Art And Olfaction Awards لعام ٢٠٢٤، حدّثنا عن هذا العطر وأنواع الياسمين المستخدمة فيه، وكيف توصلت إلى التركيبة التي جعلته منافسًا عالميًا. كيف تعاملت مع كثافة المكونات لتُبقي الياسمين في قلب العطر؟
الحمد لله أولًا وأخيرًا على هذا التوفيق، عطر “الياسمين العربي” يحتل مكانة خاصة جدًا في مسيرتي، فهو أول عطر صممته، وكان انعكاسًا لذائقتي الشخصية.
ما أردت تحقيقه من خلاله هو تقديم زهرة الياسمين برؤية مختلفة، بعيدًا عن الأسلوب النمطي الذي اعتدنا عليه في أغلب العطور، شغفي بهذه الزهرة وزراعتها والاهتمام بها عن قرب، هو ما قادني للبحث عن أفضل منتجي زيوتها حول العالم.
اخترت بعناية ثلاثة أنواع مختلفة من الياسمين العربي(سامباك)، ودمجتها مع أربع نوتات ورد طبيعية: البلغاري، الطائفي، التركي والأذربيجاني لصنع قلب عطري غني، يحمل طابعًا شرقيًا مميزًا يعكس بيئتنا وتاريخنا العطري.
التحدي الأكبر كان في التعامل مع مكونات قوية وكثيفة، والحفاظ على توازن يجعل من الياسمين جوهرًا واضحًا دون أن يُطغى عليه، وقد حرصت على إبراز هذه الزهرة بطريقة مبتكرة فيها ترف وجمال، لكنها تحمل روح الأرض التي أنتمي إليها.
كيف تتعامل مع الطابع الحيواني أو الترابي في العود؟
لا أفضل الطابع الحيواني الواضح، لكن وجوده المعتدل يضيف عمقًا وجمالًا إذا استُخدم بإتقان، ولا أسعى لإبراز وحشيته في تصاميمي الشخصية.
هل تجد أن العود يُفهم جيدًا عالميًا؟
لا أعتقد أن العود يُفهم بالشكل الصحيح عالميًا، فغالبًا ما يُقدَّم في العطور الغربية بصورة بعيدة عن جوهره الحقيقي الذي نعرفه في ثقافتنا.
في اثنين من عطوري: Charred Oud و Mandaroud حاولت أن أقدّم العود برؤية أقرب لما نعرفه ونقدّره في بيئتنا، بأسلوب يوازن بين أصالته وبين إمكانية تقبّله عالميًا، والحمد لله وجدت ردود فعل إيجابية من أشخاص اقتنوا تلك العطور، وأخبروني أن العود فيها أعطاهم انطباعًا مختلفًا تمامًا عن ما اعتادوا عليه، وهذا بالنسبة لي خطوة ناجحة نحو إيصال صورة أوضح عن العود كعنصر عطري غني ومعبر.
لقد ترشح عطر “باتشولي من ومق” لجائزة Art And Olfaction Awards لهذا العام، وهي المرة الثانية التي تصل فيها إلى القائمة النهائية. ما الذي يميز هذا العطر عن غيره من عطور الباتشولي؟ وما الجديد الذي حاولت تقديمه فيه؟
الحمد لله حمدًا كثيرًا على توفيقه الوصول إلى القائمة النهائية للجائزة العالمية Art and Olfaction Awards للعام الثاني على التوالي يُعد إنجازًا كبيرًا بالنسبة لي، خصوصًا لمن يدرك حجم هذه المسابقة ومستوى المنافسة العالي فيها، وما تتمتع به من شفافية ونزاهة جعلتها محل احترام في أوساط صناع ومحبّي العطور حول العالم.
عطر “باتشولي من ومق” كان هناك تحدٍ فني جديد، وهو تقديم نوتة الباتشولي بطريقة غير مألوفة، الباتشولي يُستخدم كثيرًا في العطور، لكنه غالبًا ما يُقدَّم بثقل ترابي أو بتوجه كلاسيكي، بينما حاولت هنا إبراز وجهٍ مختلف له، أكثر نعومة وأناقة.
صمّمت التركيبة على أن تكون الباتشولي نوتة أساسية، لكنها مدمجة بتناغم مع زهرة الأوسمانثوس والعود، لخلق حالة عطرية متجانسة تُظهر جمال الباتشولي بدفء وعمق جديدين، العطر لا يحتفي بالباتشولي فقط، بل يعيد تقديمه بلغة معاصرة، فيها توازن بين الشرق والغرب، وبين الجاذبية الفنية والهوية الثقافية.
ما بين التجريد والمادة، بين العبق والسؤال، يمضي عامر الراضي في طريقه الخاص، غير آبه بالتيارات ولا بالإعجاب السهل، يخلق من الرائحة مساحةً للتفكير، ومن كل قطرة عطر لحظةً للتمعن في المعنى والوجود، حديثه لا ينتهي بانتهاء الكلمات، بل يبدأ حيث نصمت نحن، وننصت لما تبقى من أثر في الحواس والذاكرة.
لقد منحنا هذا اللقاء نافذة نادرة على عقلٍ يرى في العطر أكثر من متعة، يراه موقفًا، بحثًا ونداءً خافتًا نحو العمق، ولعلنا بحاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى صناع عطور مثل عامر، يعيدون إلينا الإحساس بالصدق حتى لو كان في هيئة رائحة.